هذه واحدة من أغرب الزيارات التي قام بها أي رئيس أميركي للمنطقة، بل واحدة من أغرب الزيارات السياسية، التي قام بها مسؤولون غربيون للبلاد العربية وللأرض المحتلة عموماً. صحيح أننا اعتدنا على زيارات المسؤولين الأوروبيين الذين تتعدد أسماؤهم بين مبعوث خاص ومسؤول ملف الشرق الأوسط ووزير خارجية الاتحاد الأوروبي وغيرهم، وهذه زيارات لا تستهدف شيئاً غير قياس نبض المنطقة. ونبض المنطقة مهم لأوروبا، لأن فلسفتها السياسية هي ألا تخسر بقدر الإمكان. فإن ْكان النبض الرافض للسياسات الأميركية والإسرائيلية عالياً، يصدر الأوروبيون بيانات فيها بعض الحزم والمجاملة للعرب, وإنْ كان النبض منخفضاً أو ضعيفاً كما هو الآن لن يضير الأوروبيين التماشي بل والتوحد مع المواقف الأميركية المنحازة لصالح إسرائيل، وهو ما فعلوه خلال السنوات الثلاث الماضية. الأوروبيون يهمهم كثيراً ألا يخسروا في السياسة عموماً, أما الأميركيون عموماً فلا تهمهم الخسارة والمكسب في السياسة الخارجية بالذات. وعلى عكس الاعتقاد الشائع بأن المصالح الاقتصادية، هي التي تقرر السياسة الخارجية، يُضحي الأميركيون بمصالح تجارية واقتصادية كبيرة جداً بسبب تعاملهم العنيف مع العالم الثالث، وقبل ذلك مع الكتلة الاشتراكية. وكانت أميركا تفرض عقوبات تمنعها هي من التصدير لأكثر من أربعين دولة، وهو ما استمر حتى وقت قريب. فالأيديولوجيا هي ما يحرك السياسة الخارجية الأميركية بدرجة كبيرة. فالقانون الذي يغطي مسائل التجارة كان يسمى "قانون التجارة مع الأعداء"! وكانوا بالتأكيد ولا زالوا كثيرين. غير أنه لم يمر على الولايات المتحدة رئيس لا يتعامل بشكل جيد مع الاعتبارات العقلية والواقعية بما فيها المصالح الأساسية لبلاده مثل الرئيس جورج بوش الابن. ويرتبط ذلك بأيديولوجيته ذات الطابع الديني، وتسعى لأن تصور نفسها، كما لو أن لها رسالة عالمية، بينما هي في الواقع بعيدة تماماً عما يتفق عليه الناس والأمم. وبغض النظر عن الاتفاق والاختلاف مع منظومة "القيم" التي يصدع لها بوش، فهو رجل لا تهمه الخسارة في السياسة الخارجية بل الواقع أنه لم يحقق سوى الخسارة أساساً، وخاصة في الشرق الأوسط. ولهذا السبب سوف يشكل مادة للمناظرة الباحثة عن تفسير لأمور وتوجهات وسياسات لا تكاد تقبل التفسير سوى "الافتقار للمهنية"، وهو ألطف مصطلح يمكن استخدامه للتعبير عن خصال الرجل وسياساته. وأقل ما يوحي به المصطلح والنتائج العملية للسياسات هو الغرابة. إن زياراته الخارجية بالذات تبدو بالغة الغرابة لا في منطقتنا فحسب، بل في العالم ككل أيضاً، ولكن من بين كل ما فعله فالزيارة الحالية تبدو هي الأكثر غرابة. ومن باب الغرابة ثمة اختلاف في التفسير، فالبعض يقول إن الرجل جاء فعلاً للمنطقة، وفي ذهنه تحقيق دفعة لمباحثات التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهناك فعلاً من يقول إن هناك "طبخة" أو إن المطبخ الدبلوماسي والسياسي يعمل فعلاً. أما الأغلبية الساحقة، فلا ترى أية بادرة أو علامة أو دليل على تحرك بوش الجاد لدفع المفاوضات أو توصيلها لمرفأ ما آمن. ووفقا لهذا التفسير، فالرجل جاء للمنطقة لكي يرضي إسرائيل ويحصل على دعم الجالية اليهودية الأميركية لمرشحي الحزب "الجمهوري" في الانتخابات المقبلة. سعى الرئيس الأميركي لإرضاء إسرائيل إلى درجة أنه بكى بدموع مادية أثناء زيارة لمتحف الهولوكوست في إسرائيل، بينما يقع متحف أضخم بكثير على بعد أمتار قليلة من البيت الأبيض. لم يكن الرجل يحتاج للطيران كل هذه المسافة لزيارة هذا المتحف أو للبكاء على قتلى فات عليهم أكثر من ستين عاماً. ولكنه فعل ليظهر دعمه للجالية اليهودية في أميركا نفسها. ولكن الأهم هو أن الرجل عاد ليؤكد سياساته نحو قضايا التفاوض: تحيز لإسرائيل فيما يتعلق بكل ما هو جوهري: حق العودة والقدس, فضلاً عن القول بأن إسرائيل وحدها تملك سلطة القرار فيما يعد مرجعية وفيما يعد التزاما قانونيا دولياً أو فيما يعد حقاً من الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني. وفيما يبدو أن إسرائيل اختارت قضية غير محورية لكي يضغط عليها بوش أثناء زيارته، وهي ما تسميه المستوطنات العشوائية ولسان حالها يقول: لك أن تضغط في هذه القضية حتى تظهر كرجل (بالمعنى الشائع في الثقافتين اليهودية والعربية معاً) ولكن ليس في أي قضية أخرى. وبالمقابل أغدق الإسرائيليون المديح لبوش، وذهب بوش مسافة بعيدة في تملق إسرائيل، وهو ما يعني أنه لم يحدث شيء على صعيد المفاوضات. وهذا النوع من السياسات الذي يدفع رئيس لأن يطير كل هذه المسافة لكي يجامل ويحصل على المجاملات، هو تعبير عما نسميه في الإعلام "الوسيط هو الرسالة". ليست هناك مهمة أو شيء ينجز حقيقة، فالزيارة نفسها هي الشيء المهم! ولكن ذلك كله ليس سوى نظرية واحدة، فهناك نظرية مضادة ترى أن بوش جاء للمنطقة وفي ذهنه مشروع رئيسي وهو إعادة فرض سياسة الاحتواء أو تطويق إيران، وربما توجيه ضربة كبيرة لها، وأنه تفاوض مع الإسرائيليين لتنسيق هذه الضربة بما في ذلك القيام بمسرحيات معينة على صعيد التفاوض مع الفلسطينيين. إن هذا المشروع هو ما يربط بين محطات هذه الزيارة، فزيارة دول الخليج تستهدف اقناعها بالعودة لتطبيق هذه السياسة، وربما إقناعها أيضاً بالقيام بدور في التمهيد لعدوان سياسي وعسكري إسرائيلي وأميركي ضد إيران. وبافتراض أن دول الخليج وخاصة السعودية سوف تتعاون في تطبيق هذه السياسة، فهي تحتاج لأداة مساعدة تمرر من خلالها التعاون مع الأميركيين في ضرب إيران. وكانت دول الخليج قد طلبت تحديداً تأسيس دولة فلسطينية هذا العام كما وعد بوش. أميل شخصياً لهذا التفسير وخاصة أن بوش طلب من الحكومة الإسرائيلية الاحتفاظ بأولمرت رئيساً، كما أنه أعلن عن مباحثات في "قضايا حساسة" مع الساسة الإسرائيليين الكبار، وهو ما يشير بوضوح لإيران. وهو لن يقضي وقتاً طويلاً في التباحث حول مثل هذا النوع من القضايا مع زعيم جديد لإسرائيل. هل حقق الرجل شيئاً إذاً من زيارته؟ ينفر جمهور القراء من تفسير مثل هذه الزيارات الدولية، وكأنه لا غرض محددا لها ولا قيمة. وقد لا تكون هناك مشكلة في الطيران كل هذه المسافة للقيام بهذه الزيارة، ولكن ثمة مشكلة في أن يقضي الرجل أسبوعاً كاملاً بعيداً عن بلاده، دون أن يقصد بها تحقيق أغراض استراتيجية مهمة. ومع ذلك فليس لدينا شواهد تشير بوضوح إلى أنه حقق شيئاً، فقد يكون أجاز، أو اتفق مع إسرائيل على ضرب إيران، ولكن من الصعب للغاية تصديق أن الدول العربية في الخليج سوف تجيز أو تقبل التعاون مع هذه الضربة. وقد يحصل من دول الخليج على شيء من التعاون فيما يتعلق بالعراق وليس إيران. وفيما لو حصل منها على شيء فيما يتعلق بالجار القوي، فهو لن يكون احتواءً أو تطويقاً أو عزلاً، وهو ما تريده أميركا. وأقصى ما يمكن تصوره هو سياسة خليجية للمكاشفة والمحاسبة الدورية مع إيران. ولأن موقف بوش من المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية، هو ما تريده إسرائيل، فلا نتيجة كبيرة من وراء الزيارة. وحتى لو أن هناك فرقاً، فهو يرتبط بالمبادلة بين "تعاون خليجي حول إيران مقابل تنشيط المفاوضات حول الدولة الفلسطينية"، فإن لم يتوفر طرف أساسي في المعادلة، لن يكون توفير الطرف الآخر التزاماً. وخلاصة القول هو إن الزيارة بحسابات المسافة البعيدة والوقت الطويل، ليست على درجة كبيرة من الأهمية. وتقر الدراسات الأميركية بهذه النتيجة من دون "زعل"، فهي تصف الرئيس وخاصة في دورته الأخيرة، وفي عامة الأخير بالرئاسة بكونه غير قادر على تحقيق إنجاز.